اللورد هدلي سليل الأسرة المالكة
برغم مولد اللورد هدلي في بيت نصراني عريق، فإنه لم يشعر يومًا في قرارة نفسه بإيمان صادق نحو النصرانية، بل طالما راودته الشكوك في صحة التعاليم التي تروج لها الكنيسة، والطقوس التي يمارسها آباء الكنيسة في صلواتهم وأقداسهم، وطالما توقف بفكره عند أسرار الكنيسة السبعة.
إذ لم يستطع -وهو الإنسان المثقف الواعي- أن يهضم فكرة أكل جسد المسيح، أو شرب دمه كما يتوهم النصارى وهم يأكلون خبز الكنيسة ويشربون نبيذها، كذلك لم يقتنع بفكرة فداء البشرية التي هي من أسس عقيدة الكنيسة.. وشاء قَدَرُ الله أن يسافر إلى منطقة "كشمير" التي يدين أهلها بالإسلام، وذلك من أجل مشروعات هندسية، حيث كان يعمل ضابطًا في الجيش البريطاني ومهندسًا، وهناك أهدى إليه صديق ضابط بالجيش نسخة من المصحف الشريف حين لمس انبهاره بسلوكيات المسلمين.
وكان هذا الإهداء بداية تعرُّفه الحقيقي على الإسلام؛ إذْ وجد في كتاب الله ما يوافق طبيعة نفسه ويلائم روحه.. وجد أن مفهوم الألوهية -كما جاء في القرآن الكريم- يتوافق مع المنطق والفطرة، ويتميز ببساطة شديدة، كما لمس في الدين الإسلامي سمة التسامح، تلك السمة التي لم يشعر لها وجودًا بين أهله من النصارى الذين عُرِفُوا بتعصبهم ضد الديانات الأخرى بل بعضهم ضد بعض؛ فالكاثوليك يتعصبون ضد البروتستانت، وهؤلاء بدورهم يتعصبون ضد الأرثوذكس، الذين لا يقلون عن الطائفتين السابقتين تعصبًا ضدهما، فكل فريق يزعم أن مذهبه هو الحق وما عداه باطل، ويسوق في سبيل ذلك من الحجج أسفارًا يناقض بعضُها بعضًا.
ولم يكن بوسع اللورد هدلي إلا أن يميل للإسلام بعد اطلاعه على ترجمة معاني القرآن الكريم، وما قرأه عن العقيدة الإسلامية، وأبطال الإسلام الأوائل الذين استطاعوا أن يصيروا أعظم قواد العالم، وبقوة عقيدتهم أسسوا حضارة عظيمة ازدهرت لقرون طويلة، في وقت كانت أوربا ترزح تحت وطأة الجهل وطُغيان البابوات والكرادلة. كما وجد اللورد هدلي في الشريعة الإسلامية وسيرة الرسول محمدوصحابته ومن تلاهم من التابعين القدوة الحسنة التي تروَّى روحه العطشى للحق، ولم يصعب عليه أن يدرك أن الإسلام عقيدة وسلوك.
وبرغم اقتناع اللورد هدلي بالإسلام فإنه ظل قرابة عشرين عامًا يكتم إسلامه لأسباب عائلية، حتى كتب له الله أن يعلنه على الملأ في حفل للجمعية الإسلامية في لندن، وكان مما قاله:
"إنني بإعلاني إسلامي الآن لم أَحِدْ مطلقًا عمَّا اعتقدته منذ عشرين سنة، ولمّا دعتني الجمعية الإسلامية لوليمتها سُرِرْتُ جدًّا، لأتمكن من الذهاب إليهم وإخبارهم بالتصاقي الشديد بدينهم، وأنا لم أهتم بعمل أي شيء لإظهار نبذي لعلاقتي بالكنيسة الإنجليزية التي نشأت في حجرها، كما أني لم أحفل بالرسميات في إعلان إسلامي، وإن كان هو الدين الذي أتمسك به الآن".
ومضى اللورد هدلي قائلاً: "إن عدم تسامح المتمسكين بالنصرانية كان أكبر سبب في خروجي عن جامعتهم، فإنك لا تسمع أحدًا من المسلمين يذم أحدًا من أتباع الأديان الأخرى، كما نسمع ذلك من النصارى بعضهم في بعض".
واستطرد متحدثًا عن الجوانب العديدة التي شدته إلى الإسلام، فقال:
"إن طهارة الإسلام وسهولته وبُعده عن الأهواء والمذاهب الكهنوتية ووضوح حجته - كانت كل هذه الأمور أكبر من أثَّرَ في نفسي، وقد رأيت في المسلمين من الاهتمام بدينهم والإخلاص له ما لم أَرَ مثله بين النصارى، فإن النصراني يحترم دينه -عادة- يوم الأحد، حتى إذا ما مضى يوم الأحد نسي دينه طول الأسبوع... وأما المسلم فبعكس ذلك، يحب دينه دائمًا، سواء عنده أكان هو الجمعة أو غيره، ولا يفتر لحظة عن التفكير في كل عمل يكون فيه عبادة الله".
وبعد أن اعتنق اللورد هدلي الإسلام تسمى باسم "رحمة الله فاروق"، وكان لإشهار إسلامه صَدًى واسع في بريطانيا نظريًّا للَّقَبِ الكبير الذي يحمله، ولكونه سياسيًّا بارزًا، وعضوًا قياديًّا في مجَلسٍ اللوردات، حيث انتقدته الصحف البريطانية، واتهمته في صدق دينه، مُحاوِلةً تفسير موضوع إشهار إسلامه بأنه لتحقيق مكسب رخيص، وهو أن يصبح ممثل المسلمين في مجالس اللوردات وزعيمًا لهم.
وهذا ما دفع المهتدي الجديد "رحمة الله فاروق" إلى الرد على منتقديه بمقال عنوانه (لماذا أسلمت؟)، ومما جاء فيه قوله: "نحن -البريطانيين- تعودنا أن نفخر بحبنا للإنصاف والعدل، ولكن أي ظلم أعظم من أن نحكم -كما يفعل أكثرنا- بفساد الإسلام قبل أن نلم بشيء من عقائده، بل قبل أن نفهم معنى كلمة إسلام؟!".
ثم استرسل يقول: "من المحتمل أن بعض أصدقائي يتوهم أن المسلمين هم الذين أثروا فيَّ، ولكن هذا الوهم لا حقيقة له، فإن اعتقاداتي الحاضرة ليست إلا نتيجة تفكير قضيتُ فيه عدة سنين... ولا حاجة بي إلى القول بأني مُلِئْتُ سرورًا حينما وجدتُ نظرياتي ونتائجي متفقة تمام الاتفاق مع الدين الإسلامي".
ومن الجدير بالذكر أنه قد كان لإسلام "رحمة الله فاروق" أو اللورد هدلي أكبر الأثر في تقوية الحركة الإسلامية في بريطانيا؛ إذْ لم تكد تمر أشهر قليلة على إعلان إسلامه حتى اقتفى أثره أكثر من أربعمائة بريطاني وبريطانية، بعد ما استرعى انتباههم ما تَحَدَّثَ به عن محاسن الإسلام، فأقبلوا على قراءة الكتب الإسلامية، ودخلوا في دين الله أفواجًا.
ومن الطريف أن يترأس "رحمة الله فاروق" الجمعية البريطانية الإسلامية، ويتصدى لهجمات الحاقدين على الإسلام، وينبري بقلمه مدافعًا عن دين الله، رادًّا الكيد إلى نحور الكائدين الذين يحاولون تصوير الإسلام بأنه دين الشهوات.
ومن ردوده على هؤلاء ما نشرته مجلة (إسلاميك رفيو) حيث قال: "إن كل هذه المحاولات العقيمة والوسائل الدنيئة التي يقوم بها المُنَصِّرُونَ لتحقير شريعة النبي العظيم بالبذاءة وبالسفاسف لا تمسه بأذًى، ولا تغيِّر عقيدة تابعيه قَيْدَ أنملة".
ومضى يرد على المنصرين قائلاً: "لا عَجَبَ أن يكذب المنصرون وقد افتروا على الله كذبًا، فكم تظاهر اللص بالأمانة والداعر بالاستقامة والزنديق بالتدين! ولكن لا عجَبَ، فقد غاض من وجههم ماء الحياء، وقد قال نبي الإسلام: "إذَا لَمْ تَسْتَحِ فاصنع ما شِئْتَ". فلو كانوا يستحيون من أنفسهم -أو على الأقل من الناس- لما أقدموا على هذا الادعاء الباطل، والافتراء الواضح".
ولسنوات عديدة ظل "رحمة الله فاروق" يدافع من خلال كتاباته وخطبه عن الإسلام، ووضع عدة مؤلفات لعل أشهرها وأهمها كتابه (يقظة غربية على الإسلام).
ونال شهرة بين المسلمين داخل بريطانيا وخارجها، فكان يُلقى بالترحاب في بلاد المسلمين أينما حل، ومن ذلك استقباله في مصر بهتافات الترحاب والمودة.
تاريخ مولده سنة 1855
أعلن إسلامه 16 نوفمبر 1913
توفي إلى رحمة الله سنة1935